المدونة

هل الصالحين والأتقياء لا يمكن أن تصيبهم الأمراض النفسية؟

هل الصالحين والأتقياء لا يمكن أن تصيبهم الأمراض النفسية؟

اعتقاد بعض الناس أن الصالحين والأتقياء لا يمكن أن تصيبهم الأمراض النفسية، وذلك لأن الأمراض النفسية
ـ في ظنهم ـ إنما هي فقط بسبب تسلط الشيطان على ضعاف الإيمان.

ويبدو لي أن هذا الاعتقاد إنما جاء من أمرين:
الأول: عدم إدراك الناس لمعنى المرض النفسي.
الثاني: نظرة الناس للأمراض النفسية على أنها مركب نقص.
ولبحث هذا الأمر يجب علينا ابتداء أن نفرّق بين العوارض النفسية والأمراض النفسية.
فالعوارض النفسية هي تلك التفاعلات النفسية الطبيعية التي تطرأ على أي فرد منا، نتيجة تفاعله مع ظروف الحياة اليومية،
وتستمر لفترات قصيرة، وقد لا يلاحظها الآخرون، ولا تؤثر عادة على كفاءة الفرد وإنتاجيته في الحياة، كما لا تؤثر على عقله
وقدرته في الحكم على الأمور. وتعد هذه العوارض النفسية جزءاً من طبيعة الإنسان التي خلقه الله بها، فيبدو عليه الحزن
عند حدوث أمر محزن، ويدخل في نفسه السرور والبهجة عند حدوث أمر سار. وهذا أمر مشاهد معلوم لا يحتاج لإثباته دليل،
ويحدث لكل أحد من الصالحين والطالحين.

أما الأمراض النفسية فأمرها مختلف، وهي لا تقتصر على ما يسمّيه الناس بالجنون، بل إن معنى المرض النفسي معنى
واسع يمتد في أبسط أشكاله من (اضطراب التوافق البسيط) إلى أشد أشكاله تقريباً متمثلاً في مرض (الفصام الشديد الاضطراب).
كما أنه ليس شرطاً أن تُستخدم العقاقير في علاج ما يسمّيه المعالجون النفسيون الأمراض النفسية، بل إن بعضها لا يحتاج إلى
علاج دوائي، فهي تزول تلقائيًّا، وربما لا يحتاج معها المريض سوى طمأنته، كما يحدث عادة في بعض اضطرابات التوافق
البسيط ,
ويعتمد المعالج في تشخيص الاضطراب أو المرض النفسي ـ بشكل كبير ـ على ثلاثة أمور:
1ـ نوع طبيعة الأعراض.
2ـ شدة الأعراض.
3ـ مدة استمرار تلك الأعراض.


ولذلك فإنه لتشخيص المرض النفسي، فإنه يجب أن تحدث عند المريض أعراض غريبة، أو ربما أعراض غير مألوفة كالضيق
والحزن مثلاً، وتستمر لمدة ليست بالطارئة أو القصيرة، وبأعراض واضحة، وعلى درجة كبيرة من الشدة تكون كفيلة
بتشخيص المرض النفسي في تعريف المعالجين النفسيين. ولذلك فإن من يحزن لفقد قريب أو عزيز ويتأثر بذلك، فإننا
لا نصفه بأنه مريض نفسي إلا إذا استمر حزنه لمدة طويلة، ربما تصل لعدة أشهر أو بضع سنوات، وبدرجة جلية تؤثر
في إنتاجية ذلك الفرد في أغلب مجالات الحياة، أو أن تظهر عليه أعراض بعض الأمراض النفسية الأخرى، كالاكتئاب مثلاً.
ولتبسيط الموضوع، فإننا نقسم الأمراض النفسية إجمالاً إلى نوعين:
الأول: تلك الأمراض التي تؤثر في عقل الفرد، فيفقد تبصره بما حوله، وتضعف كفاءته وإنتاجيته وقدرته في الحكم على الأمور،
وتحدث فيها أعراض غريبة لم تعهد عن ذلك الفرد، ولم تعرف عنه كالاعتقادات والأفكار الغريبة الخاطئة التي لا يقبل معها نقاش،
أو أن تتأثر إحدى حواسه أو بعضها بما هو غير مألوف له، كسماعه لبعض الأصوات التي لا وجود لها حقيقة، أو وصفه لنفسه
بأنه يرى بعض الأجسام دون أن يكون لها أي وجود على أرض الواقع.
ويمكن أن يصيب هذا النوع من الأمراض أي أحد من الناس سواء كانوا من الصالحين أو غيرهم، إذا وُجد ما يدعو لحدوثها
من أقدار الله.

الثاني: تلك الأمراض التي لا تؤثر في عقل الفرد، ولا يفقد معها تبصره أو قدرته في الحكم على الأمور، لكنها تُنْقِصُ نشاطه
بعض الشيء، كالحزن الشديد المستمر لفترات طويلة، أو عدم قدرة البعض على التوافق مع بعض مستجدات الحياة
(اضطراب التوافق) وغيرها كثير. وقد تصيب هذه الأمراض أيضاً الصالحين وغيرهم من الناس، إذا
وُجد ما يدعو لحدوثها من أقدار الله.

وإني لأعجب من بعض الذين يربطون درجة التقوى والإيمان بامتناع الإصابة بالأمراض النفسية دون العضوية!!
فلقد صح عن النبي أنه قال: «ما يصيب المسلم من نَصَبٍ ولا وَصَبٍ ولا هَمٍّ ولا حزنٍ ولا أذىً ولا غمٍّ حتى الشوكة
يشاكها إلا كَفَّرَ الله بها من خطاياه»

وهذا البيان النبوي شامل لجميع الهموم والغموم صغيرها وكبيرها، أيًّا كان نوعها. وفي الأصل أن الأمراض النفسية مثل 
غيرها من الأمراض، وهي نوع من الهم والابتلاء، ولذلك فإنها قد تصيب المسلم مهما بلغ صلاحه. كما أنه لم يرد في
الكتاب الكريم ولا في السنة المطهرة ما ينفي إمكانية إصابة المسلم التقي بالأمراض النفسية حسب تعريفها الطبي، ومن
نفى إمكانية ذلك فعليه الدليل.

ولقد سئل فضيلة الشيخ محمد بن صالح العثيمين ـ رحمه الله ـ سؤالاً نصّه: هل المؤمن يمرض نفسيًّا؟
فأجاب ـ رحمه الله ـ: لا شك أن الإنسان يصاب بالأمراض النفسية بالهم للمستقبل والحزن على الماضي، وتفعل الأمراض
النفسية بالبدن أكثر مما تفعله الأمراض الحسية البدنية .. 
ولعل ما نلاحظه من مراجعة بعض أهل العلم والصلاح للعيادات النفسية يشهد بذلك.
ولقد وصف أبو حامد الغزالي ـ رحمه الله ـ نوبة الاكتئاب الحادة التي أصابته، وهو المعروف بعلمه وتقواه وورعه.
يقول أبو حامد الغزالي:
«فلم أزل أتردد بين تجاذب شهوات الدنيا ودواعي الآخرة قريباً من ستة أشهر، أولها رجب سنة ثمان وثمانين وأربع مائة.
وفي هذا الشهر جاوز الأمر حد الاختيار إلى الاضطرار، إذ أقفل الله على لساني حتى اعتقل عن التدريس، فكنت أجاهد
نفسي أن أدرّس يوماً واحداً تطييباً لقلوب المختلفة إليّ، فكان لا ينطق لساني بكلمة واحدة ولا أستطيعها ألبتة، حتى أورثت
هذه العقلة في اللسان حزناً في القلب، بطلت معه قوة الهضم ومراءة الطعام والشراب، فكان لا ينساغ لي ثريد ولا تنهضم
لي لقمة، وتعدّى إلى ضعف القوى حتى قطع الأطباء طمعهم من العلاج وقالوا: هذا أمر نزل بالقلب، ومنه سرى إلى المزاج
فلا سبيل إليه بالعلاج إلا أن يتروح السر عن الهم الملم.

كما جاء ذكر إصابة العديد من سلف الأمة بالوسواس القهري، فقد نقل الذهبي ذلك عن محمد بن سيرين وسفيان الثوري
وأبو إسحاق الشيرازي ومحمد بن يونس الموصلي ومحمد بن خلف المقدسي وعمر ابن عبد الرحيم الشافعي وغيرهم.

وبالإضافة إلى ذلك فإن انتقال أغلب الأمراض النفسية عبر الوراثة يعكس بوضوح الطبيعة المرضية لتلك الأمراض،
وأنها لا تختص بقوم أو فئة دون آخرين , ومع ذلك كله فإن المسلم يتميز عن الكافر، وكذلك التقي عن الفاجر في أنه
يحتسب ما يصيبه عند الله، ويستعين بحول الله وقوته على مصائب الدنيا، ولا يفقد الأمل مثلما يفقده غيره، مما يخفف
من أثر المصائب عليه بعض الشيء. ومع عدم وجود إحصائيات دقيقة لنسب الانتحار في المجتمعات الإسلامية، فإن من
عمل من المعالجين النفسيين في المجتمعين الإسلامي والغربي يدرك بوضوح أن نسبة حدوث حالات الانتحار في المجتمعات
الغربية تفوق كثيراً ما يحدث في المجتمعات الإسلامية.
Chat on WhatsApp