المدونة

هل مرض الوسواس القهري بسبب الشيطان فقط؟

هل مرض الوسواس القهري بسبب الشيطان فقط؟

اعتقاد بعض الناس أن منشأ مرض الوسواس القهري من الشيطان فقط، وأن لا علاقة للعلاج النفسي به من قريب أو بعيد.
يرى كثير من المعالجين النفسيين أنه لا علاقة للشيطان بمرض الوسواس القهري، في حين يرى كثير من طلبة العلم الشرعي أن الشيطان
هو مصدر جميع أنواع الوسواس ولتوضيح مصدر اللبس في شأن مرض الوسواس القهري نصنّف الوساوس بشكل عام إلى ثلاثة أنواع 

النوع الأول: تلك الوساوس التي تدعو الإنسان عادة أن ينظر أو يفعل أو يستمع إلى أمر محرم. ويعد هذا النوع من الوساوس من طبيعة النفس
البشرية (أي ليس مرضاً)، ويعتري كل أحد من بني آدم. وتختلف هذه الوساوس عن غيرها من الوساوس ـ كما سنرى لاحقاً ـ بأنها تدعو الإنسان
إلى محبوبات النفس المحرمة شرعاً , كما أنه إذا لبى الإنسان بشيء من جوارحه نداء هذا النوع من الوساوس فإنه قد عرض نفسه للحساب
والجزاء من رب العالمين، فقد روي عن النبي أنه قال: «إن الله تجاوز عن أمتي ما حدَّثت به أنفسها ما لم تعمل أو تتكلم به» وعن أبي هريرة
رضي الله عنه قال: قال رسول الله: «إن الله تعالى يقول للحفظة: إذا همّ عبدي بسيئة فلا تكتبوها عليه، فإن عملها فاكتبوها».

ويعد مصدر هذا النوع من الوساوس عادة أحد ثلاثة أمور:
1-النفس: وهي النفس الأمارة بالسوء. 
2-شياطين الجن: ودليل ذلك قال الشيخ عبد الرحمن السعدي في تفسيره لسورة الناس: وهذه السورة مشتملة على الاستعاذة برب الناس ومالكهم
وإلههم من الشيطان، الذي هو أصل الشرور كلها ومادتها، الذي من فتنته وشره أنه يوسوس في صدور الناس، فيحسّن لهم الشر، ويريهم إياه
في صورة حسنة، وينشّط إرادتهم لفعله، ويثبّطهم عن الخير، ويريهم إياه في صورة غير صورته. وهو دائماً بهذه الحال يوسوس ثم يخنس،
أي يتأخر عن الوسوسة إذا ذكر العبد ربه واستعان على دفعه.
3-شياطين الإنس: قال الشيخ عبد الرحمن السعدي في تفسيره: والوسواس كما يكون من الجن يكون من الإنس،  

النوع الثاني: تلك الوساوس العابرة (غير المرضية) التي تعرض للإنسان في صلاته وطهارته وعباداته ومعتقداته، وكذلك في شؤون حياته
الدنيوية , وهذا النوع من الوساوس يلهي العبد عن عبادته، فينسى كم ركعة صلى؟ أو هل غسل ذلك العضو من جسمه أم لا؟ وغير ذلك من
الوساوس في أمور الدين والدنيا.

وكما يعتري هذا النوع من الوساوس الإنسان في أمور دينه، فإنه يصيبه أيضاً في أمور دنياه، والذي يبدو لي أن مصدر هذا النوع من الوساوس
هو الشيطان والنفس، ولذا فإنه قد يزول عند الاستعاذة بالله من الشيطان الرجيم، كما قد تخف شدته أحياناً بالتركيز أكثر في ذات العبادة.
ولذلك فإن الإنسان يؤجر على صلاته بقدر ما عقل منها، لأن بيده مقاومة هذا النوع من الوساوس مستعيذاً بالله من الشيطان الرجيم ومقاوماً
لأحاديث نفسه أثناء العبادة.
ويختلف هذا النوع من الوساوس عن النوع الأول في أنه قد يزول بإذن الله عند الاستعاذة من الشيطان الرجيم، في حين أن النوع الأول قد لا يزول
عند الاستعاذة، كما أن هناك اختلافاً آخر يتمثل في أن النوع الأول يدعو الإنسان إلى محبوبات النفس المحرمة، في حين أن النوع الثاني هو
مجرد أفكار وخواطر عابرة.

ومما يدعم إمكانية زوال هذا النوع من الوساوس بالتركيز في ذات العبادة ما ذكره أبو حامد الغزالي ـ رحمه الله ـ حيث قال:
«ولا يمحو وسوسة الشيطان من القلب إلا ذِكْر ما سوى ما يوسوس به، لأنه إذا خطر في القلب ذكر شيء انعدم منه ما كان فيه من قبل،
ولكن كل شيء سوى الله تعالى وسوى ما يتعلق به فيجوز أيضاً أن يكون مجالاً للشيطان، وذكر الله هو الذي يؤمن جانبه، ويعلم أنه ليس
للشيطان فيه مجال».
النوع الثالث: الوساوس القهرية المرضية (مرض الوسواس القهري)، وهو علة مرضية تصيب بعض الناس، كما يصيبهم أي مرض آخر.
وهي أفكار أو حركات أو خواطر أو مشاعر متكررة ذات طابع بغيض، يرفضها الفرد عادة ويسعى في مقاومتها، كما يدرك أنها خطأ ولا
معنى لها، لكن هناك ما يدفعه إليها دفعاً، ويفشل في أغلب الأحيان في مقاومتها.
وقد تحدث هذه الوساوس دون سبب سابق لها، كما قد تحدث نتيجة اضطراب عضوي كبعض إصابات الرأس، أو بسبب اضطراب نفسي
كالاكتئاب مثلاً.
وتختلف شدة هذه الوساوس حتى إنها لتبدو ـ لغير المتخصصين ـ عند زيادة شدتها، وكأن المريض مقتنع بها تماماً، وهو ما قد يحدث فعلاً
في بعض الأحيان , ويعتري هذا النوع من الوساوس الإنسان أيضاً في عباداته، وكذلك في شؤون حياته الدنيوية.
مثال ذلك (في العبادات): تكرار المصلي لتكبيرة الإحرام أو قراءة الفاتحة عدة مرات، أو تكرار غسل عضو من الأعضاء أثناء الوضوء،
أو تكرار الوضوء كاملاً، أو الشك في نية الوضوء أو الصلاة، أو إعادة التطهر من النجاسة عدة مرات حتى مع إدراكه أنه مخطئ في فعله
ذلك، لكن هناك ما يدفعه رغماً عنه إلى إعادة ذلك الفعل مرات عديدة احتياطاً منه أنه ربما قد نسي أنه لم يفعل ذلك.
مثال آخر (في غير العبادات): تكرار غسل اليدين مرات كثيرة بعد لمس جسم ما ـ مثل مقابض الأبواب ـ حتى مع عدم وجود حاجة لغسل
اليدين، أو كان يكفيه غسلهما مرة واحدة، لكن هناك ما يدفعه لذلك الفعل بسبب الأفكار التي تهيمن على عقله؛ أنه ربما تكون يداه قد تلوثتا
بسبب ذلك الفعل، ولذلك فإنه يعيد غسلهما عدة مرات.
مثال ثالث: تكرار فكرة أو هاجس ما، مثل إحساس أحدهم بأن زوجته تعد طالقاً منه إذا باع تلك البضاعة من متجره، ولذا تجده لا يوفر تلك
البضاعة في متجره، أو إحساس بعضهم بأنه قد دهس بسيارته شخصاً ما حينما كان يسير في الطريق، ولذا تجده يعود إلى نفس الطريق عدة
مرات، أو شعور ملح متكرر عند بعضهم بأنه على وشك النطق بلفظ الطلاق مع أنه لا يريد طلاق زوجته، ولذا تجده يشعر بالضيق الشديد
ويستفتي العلماء، أو هاجس متكرر عند الأم بأن تقتل ابنها بالسكين أو تقذفه من النافذة، ولذا تجدها تقلق جدًّا عندما تدخل المطبخ أو تقترب
من النافذة، أو فكرة قهرية تدعو الفرد للنظر إلى الأعضاء التناسلية لمن يحدثهم دون وجود شهوة جنسية مصاحبة مما يحدث عنده الحرج
الشديد، فيؤدي إلى عزلته عن الناس.

ومع إدراك الفرد من أولئك أن ذلك غير صحيح، لكن تكرار تلك الفكرة وعدم قدرته على دفعها يثير القلق في نفسه.
مثال رابع: ترديد الفرد في خاطره كلمات يسبّ فيها الدين أو الخالق ـ تعالى الله عن ذلك علوًّا كبيرا ـ دون أن تكون له قدرة على دفعها،
كما قد يشعر أحياناً أنه آثم بسبب تلك الأفكار. ويختلفُ المُوَسْوِسُ في ذلك عن الضال أو المنحرف فكريًّا، في أن الموسوس يحترق ويتألم
من شدة المعاناة، ويشتكي حاله إلى العلماء، كما أنه ربما يخفيها أحياناً خجلاً منها، أو كي لا يكفّره الآخرون، نظراً لعدم إدراكهم لحقيقة معاناته.
أما المنحرف فكريًّا فإنه ينافح ويناضل من أجل إثبات فكرته للآخرين وهي لا تقلقه، بل تتوافق مع أفكاره الأخرى وميوله.

كما يختلف الشك عن الوسواس القهري في أن المصاب بالشك يعتريه التردد حول فكرته فيقتنع بها أحياناً وينكرها في أحيان أخرى، إلا إذا
بلغ الشك حدًّا مرضيًّا فإن المريض يقتنع بفكرته أغلب الوقت (مثل الشخص المصاب بتوهم المرض) أو يقتنع بها على الدوام (مثل الشخص
المصاب بالاضطراب الهذائي).
كما أن الشك ربما كان ردة فعل طبيعية لحدث يستدعي ذلك الشك، أو ربما كان أحد السمات
الشخصية لدى الفرد التي تدل على اضطراب شخصيته فهو شخص متوجس مرتاب.
وفي الحقيقة أننا لا نستطيع أن ننفي دور الشيطان تماماً في النوع الثالث من الوساوس، لكن يبدو أن دوره يتركز في أمرين أساسيين:
1-ربما كان للشيطان دور في الوسوسة لذلك الفرد في بداية مرضه، فإن صادفت تلك الوسوسة نفساً ذات قابلية للإصابة بمرض الوسواس
القهري حدث المرض، وإلا انتهت تلك الوسوسة بالطريقة نفسها التي ذكرنها في النوع الثاني.
2-فيما يتعلق بالوساوس في العبادات فربما يكون للشيطان دور أيضاً في إقناع مريض الوسواس القهري بتقصيره في حق الله، حتى يزيد
من قلق المريض. وقد يوهمه الشيطان بأن معاناته بسبب ضعف إيمانه، مما أدى إلى تغلب الشيطان عليه، وليس ذلك بسبب علة مرضية أصابته.
والعجيب في الأمر أن بعض الصالحين ـ اجتهاداً منهم وعن حسن نية ـ قد ينصرون الشيطان على أخيهم الموسوس، لأنهم يعاتبونه على
وسواسه (النوع الثالث)، وكيف سمح للشيطان أن يتغلب عليه، فيزيدون من معاناته وهم لا يشعرون، وذلك لأن زيادة قلق الموسوس تزيد من
وسواسه، والذي يؤدي ثانية إلى زيادة القلق، فيظل الموسوس يطوف في دائرة مغلقة من القلق والوساوس حتى تنهكه الهموم.
ومما يرجح الصفة المرضية لهذا النوع من الوساوس (النوع الثالث) حدوثه في غير أمور العبادات بشكل كبير، مع أننا ندرك أن الشيطان عدو
للإنسان في شؤون دينه ودنياه. إضافة إلى ذلك فإن إصابة بعض من لم يعهد عنهم زيادة تدين أو صلاح ببعض الوساوس القهرية في أمور العبادات
ما يدعم الصفة المرضية لهذا المرض. كما أن انتقال هذا النوع من الوساوس (النوع الثالث) عن طريق الوراثة في بعض الأحيان، أو بسبب
أسلوب تربية الوالدين أو أحدهما في أحيان أخرى، وكذلك انتشار المرض ذاته عند أقارب المريض يدعم بشكل جلي وجود اضطراب مرضي
عند تلك الفئة من الناس.
ويختلف هذا النوع من الوساوس عن النوع الأول في أنه لا يدعو الإنسان إلى محبوبات النفس، بل يجبر النفس على فعل أشياء تعرف عادة في
قرارتها أنها خاطئة وذات طابع بغيض وغير مرغوب فيها وبلا معنى، لكن النفس لا تستطيع مقاومتها في أغلب الأحيان. كما يختلف أيضاً
عن النوع الثاني في أن الاستعاذة بالله من الشيطان الرجيم لا تكفي في العادة لعلاجه.

ولعل إصابة المسلم بمرض الوسواس القهري يعدّ ابتلاء من الله ـ سبحانه وتعالى ـ كما يبتلى بغيره من الأمراض، ويندرج مثل غيره من
الأمراض تحت قوله: «ما يصيب المؤمن من وصب ولا نصب ولا سقم ولا حزن وحتى الهم يهمه إلا كفر الله به من سيئاته».
ولقد كتب عدد من العلماء في الوسواس مثل الإمام الجويني في كتابه «التبصرة في ترتيب أبواب للتمييز بين الاحتياط والوسوسة على مذهب
الإمام الشافعي»، والإمام النووي في «المجموع شرح المهذب»، وأبو حامد الغزالي في كتابه «إحياء علوم الدين»، والإمام ابن الجوزي
في كتابه «تلبيس إبليس»، وكذلك الإمام ابن القيم في كتابه «إغاثة اللهفان من مصايد الشيطان».
كما اختلف العلماء في نظرتهم للوسواس، فقد ذكر أبو حامد الغزالي أن الوسواس يحدث بسبب نقص في غريزة العقل، أو جهل بمسالك الشريعة.
والذي يبدو أن معنى الوسواس عند معظم العلماء السابقين ـ رحمهم الله ـ معنى واسع يشمل جميع أنواع الوسواس التي ذكرناها ابتداء، لكنهم
نسبوها جميعاً إلى الشيطان، ولم يقل إلا قليل منهم ـ حسب علمي ـ إن هناك وسواساً مرضيًّا مثل ما ذكره أبو الفرج بن الجوزي عن أبي الوفاء
بن عقيل: أن رجلاً قال له: أَنْغَمِسُ في الماء مراراً كثيرة وأشك: هل صحّ لي الغسلُ أم لا، فما ترى في ذلك؟ فقال له الشيخ: اذهب، فقد سقطت
عنك الصلاة. قال: وكيف؟ قال: لأن النبي قال: «رفع القلم عن ثلاثة: المجنون حتى يفيق، والنائم حتى يستيقظ، والصبي حتى يبلغ».
ومن ينغمس في الماء مراراً، ويشك هل أصابه الماء أم لا فهو مجنون».
ولا أدري حقيقة هل أراد أبو الوفاء بن عقيل ـ رحمه الله ـ تأديب السائل وزجره بجوابه ذاك أم أنه يرى حقيقة أنه مريض , وإذا قبلنا الثانية فإنه
يبدو أن معظم هؤلاء العلماء لم يكونوا يتعاملون مع الحالات الشديدة من الوسواس على أنها حالات وسواس مرضي خارج عن إرادة الفرد،
وإنما على أنها لون من الجنون أو نقص في غريزة العقل كما مر بنا.

وقد نقل الغزالي ـ رحمه الله ـ في إحياء علوم الدين بعض آراء العلماء في حال الوسواس عند الذكر حيث قال:
«اعلم أن العلماء المراقبين للقلوب الناظرين في صفاتها وعجائبها اختلفوا في هذه المسألة على خمس فرق:
فقالت فرقة: الوسوسة تنقطع بذكر الله عز وجل، لأنه عليه الصلاة والسلام قال: «فإذا ذكر الله تعالى خنس» ، والخنس هو السكوت فكأنه يسكت.
وقالت فرقة: لا ينعدم أصله، ولكن يجري في القلب ولا يكون له أثر، لأن القلب إذا صار مستوعباً بالذكر كان محجوباً عن التأثر بالوسوسة
كالمشغول بهمه، فإنه قد يتكلم ولا يفهم، وإن كان الصوت يمر على سمعه.
وقالت فرقة: لا تسقط الوسوسة ولا أثرها أيضاً، ولكن تسقط غلبتها للقلب، فكأنه يوسوس عن بعد وعلى ضعف.
وقالت فرقة: ينعدم عند الذكر في لحظة وينعدم الذكر في لحظة، ويتعاقبان في أزمنة متقاربة يظن لتقاربهما أنهما متساوقة، وهي كالكرة التي
عليها نقط متفرقة، فإنك إذا أردتها بسرعة تواصلها بالحركة، واستدل هؤلاء بأن الخنس قد ورد ونحن نشاهد الوسوسة مع الذكر ولا وجه له
إلا هذا.
وقالت فرقة: الوسوسة والذكر يتساوقان في الدوام على القلب تساوقاً لا ينقطع. وكما أن الإنسان قد يرى بعينيه شيئين في حالة واحدة،
فكذلك القلب قد يكون مجرى لشيئين، فقد قال: «ما من عبد إلا وله أربعة أعين: عينان في رأسه يبصر بهما أمر دنياه، وعينان في قلبه يبصر
بهما أمر دينه»()وإلى هذا ذهب المحاسبي.
والصحيح عندنا أن كل هذه المذاهب صحيحة، لكن كلها قاصرة عن الإحاطة بأصناف الوسواس، وإنما نظر كل واحد منهم إلى صنف
واحد من الوسواس فأخبر عنه» انتهى كلام الغزالي.

ولعله مما سبق يتبين لنا اختلاف معظم علماء المسلمين السابقين في وصف الدور الحقيقي للشيطان في الوسوسة، وكذلك حيرة بعضهم في
التعامل مع بعض أنواع الوسواس، كما حدث للإمام أبي الوفاء بن عقيل ـ رحمه الله ـ. وقد حرص عدد من الدعاة وطلبة العلم في عصرنا الحديث
على الاستماع لمعاناة الموسوسين وتقديم النصح لهم إلا أن أكثرهم لاحظ أن لا فائدة من ذلك مع أكثر السائلين، والذي يبدو لي أنه قد حدث بسبب
عدة أمور منها:
1-اعتقاد بعض الدعاة وطلبة العلم أن كل أنواع الوسواس من الشيطان فقط.
2-اجتهاد بعض الدعاة وطلبة العلم في تصحيح الفكرة الوسواسية عند مريض الوسواس مع العلم أن مريض الوسواس في العادة يدرك أن الفكرة
خاطئة لكن المشكلة تكمن عنده في إلحاح الفكرة وتكرارها.
3-الخلط بين الوسواس والشك والوهم وعلاجها على أنها أمور متماثلة.
4-عدم معرفة بعض الدعاة وطلبة العلم أن هناك علاجاً طبيًّا نفسياً لبعض حالات الوسواس القهري.
5-أن التوجيه والنصح يجب أن يتم من خلال برنامج علاجي مقنن قد تم تقنينه واختباره في بلاد مختلفة ولسنوات عديدة، وليس مجرد اجتهادات
ورؤى شخصية.
ولقد لاحظ بعض سلف الأمة ـ مثل أبي زيد البلخي رحمه الله ـ الحاجة إلى تقديم مناهج علاجية للوسواس فكتب في كتابه (مصالح الأبدان والأنفس)
خطوات عملية لعلاج الوسواس تشبه إلى حد ما خطوات العلاج السلوكي المتبعة في منهج العلاج النفسي المعاصر، والتي أيضاً قد جاء ذكر بعضها
في أحاديث النبي × كما سيمر بنا لاحقاً. ولذلك لعل من المطلوب أن نركز في البحث الشرعي وأن نسخر ما توصل إليه العلم الحديث في هذه المسألة.
وباستقراء جملة الأحاديث النبوية الواردة في شأن الوسواس يمكننا أن نجتهد في تصنيفها إلى ما يلي:
1ـ تلك الأحاديث التي تنتهي بنسبة الوسواس إلى الشيطان:
عن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال: جاء رجل إلى النبي فقال: يا رسول الله إني لأحدِّث نفسي بالشيء لأن أَخِرَّ من السماء أحب إليّ
من أن أتكلم به، قال: فقال النبي: «الله أكبر الله أكبر الله أكبر، الحمد لله الذي رد كيده إلى الوسوسة».
2ـ تلك الأحاديث التي تقدم علاجاً عمليًّا، إضافة إلى الاستعاذة بالله من الشيطان الرجيم:
* حديث عثمان بن أبي العاص الذي سبق ذكره في النوع الثاني من أنواع الوساوس.
* عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله: «يأتي الشيطانُ أحدَكم فيقول: من خلق كذا؟ من خلق كذا؟ حتى يقول: من خلق رَبَّكَ؟
فإذا بلغه فليستعذ بالله ولينته».
* عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله: «لن يبرح الناس يتساءلون حتى يقولوا: هذا الله خالق كل شيء فمن خلق الله؟
فإذا جاءه شيء من ذلك فليستعذ بالله من الشيطان الرجيم، وليقل: آمنت بالله».
3ـ تلك الأحاديث التي تقدم علاجاً عمليًّا بدون الأمر بالاستعاذة بالله من الشيطان الرجيم:
*عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله: «إذا وجد أحدكم في بطنه شيئاً فأشكل عليه: أخرج منه شيء أم لا؟ فلا يخرجن من
المسجد حتى يسمع صوتاً أو يجد ريحاً».
* عن عبد الله بن زيد ـ رضي الله عنه ـ قال: شُكي إلى رسول الله الرجل يخيّل إليه أنه يجد الشيء في الصلاة، قال:
«لا ينصرف حتى يسمع صوتاً أو يجد ريحاً».
4ـ تلك الأحاديث التي تقدم علاجاً وقائيًّا للوسواس قبل حدوثه:
* عن أُبَيِّ بن كعب رضي الله عنه أن النبي × قال :«إن للوضوء شيطاناً يقال له ولهان، فاتقوا وسواس الماء»
* عن عبد الله بن مغفل قال: قال رسول الله ×: «لا يبولن أحدكم في مستحمه ثم يغتسل فيه، فإن عامة الوسواس منه»
5ـ تلك الأحاديث التي تخبر عن وقوع التعدي في الوضوء، لكنها لم توضح طبيعة هذا التعدي، هل وسواس أم تشدد، وهو إلى التشدد أقرب،
وسنفصل في الفرق بينهما لاحقاً.
* عن عبد الله بن مغفل رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله × يقول: «سيكون في هذه الأمة قوم يعتدون في الطُّهور والدعاء».

وباستقراء جميع هذه الأحاديث يمكننا أن نستنتج ما يلي:
1ـ لو كانت الاستعاذة وحدها كافية لجميع أنواع الوساوس دون فعل أسباب أخرى لأرشد إليها الرسول ـ وهو الرحيم بأمته ـ في جميع الأحاديث،
لأنها أهون بكثير من مقاومة الوساوس التي دعا إلى نهجها في المجموعة الثانية من أحاديث الوسواس.
2ـ وجَّه النبي في المجموعة الثالثة من الأحاديث إلى وسائل عملية (سلوكية) للعلاج وهي منع الاستجابة، والتي تعد إحدى تقنيات العلاج
السلوكي المستخدمة في علاج الوسواس القهري.
3ـ جمع النبي في المجموعة الثانية من الأحاديث بين الاستعاذة والعلاج السلوكي (مثل إيقاف الأفكار) ، في حين اقتصر في المجموعة الثالثة
على العلاج السلوكي، مما يدل على أنه ربما كان غير الشيطان مصدراً للوسواس القهري في بعض الأحيان على الأقل، رغم إدراكي فائدة
العلاج السلوكي في علاج وساوس الشيطان، سواء كان مقروناً بالاستعاذة (وهو الأفضل) كما جاء في حديث عثمان بن أبي العاص
«فتعوّذ بالله منه، واتفل عن يسارك ثلاثاً» أو بدون الاستعاذة كما جاء في حديث أبي سعيد الخدري.
4ـ نلاحظ أن النبي لم يناقش محتوى الفكرة الوسواسية بل اتجه في العلاج إلى طبيعتها الملحة المتكررة من خلال منع الاستجابة وإيقاف الأفكار،
وهو منهج العلاج النفسي المعاصر، والذي يجب أن ينهجه الدعاة وطلبة العلم في توجيههم مرضى الوسواس؛ فالمحتوى قد يتغير من وقت لآخر
لكن طبيعة التكرار والإلحاح صفة دائمة.
5ـ مما سبق ربما نستنتج أيضاً أن أي إجراء عملي أو خطوة علاجية مباحة، سواء بالعقاقير أو الوسائل العلاجية النفسية مشروعة إن ثبت
نفعها في علاج الوسواس القهري.
ولعل ما يلاحظه المعالجون النفسيون من شفاء بعض مرضى الوسواس القهري عند علاجهم بالعقاقير أو الوسائل العلاجية النفسية الأخرى أو
الجراحة ما يدعم الصفة المرضية لهذا الداء. إضافة إلى ذلك، فإن الأبحاث العلمية أثبتت وجود تغير في أنسجة المخ، واضطراب في مستوى
بعض النواقل العصبية، خصوصاً مادة (السيروتونين) عند بعض المصابين بمرض الوسواس القهري، والذي يتبدل عند التداوي بالعلاج المناسب
سواء كان عقاراً نفسيًّا أو برنامجاً علاجيًّا سلوكيًّا.
ومما يدعم ذلك أيضاً إصابة بعض الكفار بهذا المرض، وهم من قد خلت قلوبهم من التوحيد الذي هو أصل الإيمان، فلا حاجة للشيطان أن
يصيبهم بالوسواس فيما هو دون ذلك من أمور الدنيا.
ولعل توافق اسم هذا المرض (الوسواس القهري) لفظاً مع كلمة وسواس التي تنسب عادة إلى الشيطان، جعل بعض الناس يربطون هذا المرض
دائماً بالشيطان وكثير ما أشغل بالي البحث عن مفردة عربية أخرى غير لفظ الوسواس لتسمية هذا المرض حتى تخف حدة هذا الالتباس
فوجدت أن تسميته مرض الاستحواذ القهري ربما كان بديلاً مناسباً.
ومما يؤلم المصابين بداء الوسواس القهري (النوع الثالث من الوساوس) ما يقرؤونه في كتب بعض العلماء عن ذم الوسوسة والموسوسين،
لأنهم كانوا ـ رحمهم الله ـ يطلقون ذلك الوصف على جميع أنواع الوسواس دون تخصيص، فالوصف الذي يطلقونه كان وصفاً عاماً، لكن يتأكد
عندهم في النوع الثالث ـ حسب تصنيفنا ـ أكثر من سواه، ولم يكونوا أيضاً ـ كما مر بنا ـ يرون أن هناك وسواساً مرضياً كما يراه المعالجون
النفسيون في العصر الحديث. ولذلك يتألم مريض الوسواس القهري جدًّا حينما يقرأ للإمام ابن القيم ـ رحمه الله ـ قوله:
«فإن قال (أي الموسوس): هذا مرض بليت به، قلنا: نعم، سببه قبولك من الشيطان، ولم يعذر الله أحداً بذلك، ألا ترى أن آدم وحواء لما وسوس
لهما الشيطان فقبلا منه أُخرجا من الجنة، ونُودي عليهما بما سمعت، وهما أقرب إلى العذر لأنهما لم يتقدم قبلهما من يعتبران به، وأنت قد
سمعت، وحذَّرك الله من فتنته، وبيّن لك عداوته، وأوضح لك الطريق فما لك عذر ولا حجة في ترك السنّة والقبول من الشيطان».
ولعلك تلاحظ أخي القارئ أن الإمام ابن القيم ـ رحمه الله ـ قد جمع في مقولته بين النوع الأول ـ حسب تصنيفنا ـ وهو ما حدث لأبينا آدم
وأمنا حواء، وبين النوع الثالث وهو حال مرضى الوسواس القهري، وناقش النوعين على أنهما نوع واحد.
ولعل من يقرأ كلام الإمام ابن القيم ـ رحمه الله ـ الذي أسلفناه في ذم الموسوسين، ثم بعد ذلك بعدة صفحات من نفس الكتاب (إغاثة اللهفان)
ينقل عن الصحابي الجليل عبد الله بن عمر ـ رضي الله عنهما ـ أنه كان موسوساً (إن بي وسواساً فلا تقتدوا بي)() يجعلنا نتساءل: هل يمكن
أن يكون ابن عمر ـ رضي الله عنهما ـ مشمولاً في كلام ابن القيم ـ رحمه الله ـ، أم أن ذلك ربما كان سمة من سمات شخصية ابن عمر رضي الله
عنهما، أم أن الوسواس ربما كان في بعض أحيانه مرضاً يحتاج إلى علاج، أم ربما كان أمراً آخراً لم نفهم كنهه حتى الآن.

ومما يؤلم الموسوسين أيضاً اجتهاد بعض طلبة العلم بالاستشهاد بالأحاديث التي تنهى عن التنطع والغلو في الدين في حق الموسوسين مثل قوله:
«لا تشددوا على أنفسكم فيشدد الله عليكم، فإن قوماً شددوا على أنفسهم فشدد الله عليهم، فتلك بقاياهم في الصوامع والديار: رهبانية ابتدعوها ما
كتبناها عليهم». ولو وقفنا مع كلمة واحدة من هذا الحديث (لا تشددوا)، لربما بان لنا الفرق بين التشدد والوسواس القهري. فالتشدد هو الغلو
والتنطع في الدين النابع من ذات الفرد وبإرادته تقرباً منه إلى الله، بل وينتقص أعمال غيره ممن لا يفعلون فعله، مثل ما كان من أولئك النفر
الثلاثة الذين جاءوا إلى النبي فقال أحدهم: إنه يصوم ولا يفطر، وقال الآخر: إنه يصلي ولا ينام، وقال الثالث: إنه لا يتزوج النساء، فأنكرعليهم
النبي فعلهم.
أما الموسوس فأمره مختلف تماماً، فهو في العادة يشكو لكل أحد من وسوسته، ويتألم منها، ويستفتي العلماء في حاله، ويتردد على المعالجين
النفسيين، ويدعو الله أن يخلّصه من الوساوس، ويقاومها فيفرح أشد الفرح إذا تغلب على الوسواس ـ وقليلاً ما يحدث ـ ويحزن أشد الحزن
إذا غلبه الوسواس، وهو ما يحدث في أغلب الأحوال.


وقد سئل الشيخ محمد بن صالح بن عثيمين ـ رحمه الله ـ السؤال التالي: إذا ترك رجل متزوج الصلاة لمدة تقارب عشرة أشهر، فما الذي يجب
عليه، وهل يقضي تلك الصلوات علماً بأنه تركها بسبب الوسواس، وهل يؤثر على صحة زواجه؟ فأجاب ـ رحمه الله ـ: «لا يؤثر هذا على
صحة نكاحه، لأنه عندما تزوج لم يكن تاركاً للصلاة، إنما طرأ عليه ترك الصلاة بعد العقد. ثم إن ظاهر سؤاله أن تركه للصلاة ليس باختيار منه،
لكنه عن مرض نرجو أن يكون النكاح باقياً ... وخلاصة الجواب أنه لا يلزمه قضاء الماضي من الصلوات وأنه لا يلزمه إعادة عقد نكاحه».
والشاهد في هذه الفتوى قوله رحمه الله (ليس باختيار منه، لكنه عن مرض).

ولقد سألت فضيلة الشيخ محمد بن صالح العثيمين ـ رحمه الله ـ في حوار خاص تم بيننا في أواخر عام 1420هـ أن عدداً من مرضى الوسواس
يعتقدون أنهم ضعاف الإيمان بسبب غلبة الوسواس عليهم، فقال: إن ذلك خطأ، والصواب أنه علامة قوة الإيمان، ألم تقرأ ذلك في حديث النبي.
وقد استأذنته ـ رحمه الله ـ في نقل ذلك للناس فإذن لي.
كما سئل ـ رحمه الله ـ: هل يعذر الإنسان بالتصرفات المحرمة بسبب الوسواس؟ فأجاب: إذا كانت ليست تحت طاقته فيعذروأما إذا كان في طاقته
ويمكن أن يتخلص منه بما أمر به النبي من الاستعاذة والإعراض فلا يُعذر.
ولعلك تتفق معي أخي القارئ أن تعريف معنى الطاقة متعذر في أغلب الأحيان لدى مرضى الوسواس القهري لما يعانونه من قلق وخوف
على صحة إيمانهم، ولذلك كان الرجوع إلى العلماء المعتبرين واستفتاؤهم في ذلك، وعدم اقتصار مريض الوسواس على اجتهاده كان أمراً مطلوباً،
كي لا يقع المرء في تساهل أو تشدد يضيع بهما أمر دينه.
ومع كل ما أسلفناه من الدلائل التي تدعم عدم علاقة الشيطان بالوسواس القهري، فإننا لا يمكن أن نقطع بذلك ـ مع غلبة الظن ـ وذلك لأننا
نبحث في أمور غيبية نؤمن بمجمل تأثيرها، لكن لم يُنقل لنا طبيعة ذلك التأثير وخصوصيته.

وإن قلب المعالج النفسي المسلم ليتألم حينما يرى بعضاً من بني أمته يصارع مرض الوسواس القهري لسنوات عديدة، ويرفض زيارة المعالج
النفسي إما لقناعته بعدم فائدة العلاج النفسي في علاج علته، أو بسبب النظرة الاجتماعية السلبية تجاه العلاج النفسي.
وفي الوقت نفسه فإن قلب ذلك المعالج ليبتهج حينما ينجح في إقناع مريض الوسواس القهري بالعلاج، وتغمره الفرحة حينما يعود إليه المريض
بعد عدة أسابيع وهو في أحسن حال.
وإن أنس لا أنس مقولة تلك السيدة المسنة التي قالت حينما شفاها الله من الوسواس القهري بعد العلاج النفسي:
«إنني لم أذق طعم الراحة منذ عشرين سنة إلا اليوم».
ومن الجدير أن نشير أن بعض مرضى الوسواس القهري قد لا يستجيبون للعلاج النفسي، وأن آخرين منهم قد يستجيبون استجابة جزئية.
Chat on WhatsApp